02-مارس-2022

لا يقولون إنهم لا يعرفون، بل ربما هم لا يعرفون أنهم لا يعرفون!

ها نحن عرضة لغزو المحللين السياسيين مجددًا. الحرب الأوكرانية جعلت العالم يقف على رؤوس أصابعه حابسًا أنفاسه وواضعًا يده على قلبه منتظرًا الأسوأ. ولأول مرة، منذ سنوات طويلة، يعود شبح الفناء ليخيم فوق رؤوسنا بعد التلويح بالأسلحة النووية التي كدنا ننسى وجودها.

يعود شبح الفناء ليخيم فوق رؤوسنا بعد التلويح بالأسلحة النووية التي كدنا ننسى وجودها

مصدومين مما حدث، وخائفين مما سيحدث، نتسمر أمام التلفاز ونقلب بين القنوات في سعي خائب لأن نفهم. وسرعان ما نكتشف أن هؤلاء الرجال الذين  يتسيدون الشاشات ويغمروننا بسيول من الكلام، هم مثلنا تمامًا لا يعرفون شيئًا، مع فارق حاسم وهو أنهم لا يقولون إنهم لا يعرفون، بل ربما هم لا يعرفون أنهم لا يعرفون!

اقرأ/ي أيضًا: أوكرانيا: عن الاعتداء على الحياة التي تستحق العزاء

وأحد أسباب هذا العجز المكشوف هو أن هؤلاء يُجلبون ليُسألوا عن المستقبل، عما سيحدث بعد سنة أو شهر أو في الغد، وهو سؤال ثبت أن إجابته شبه مستحيلة، إلا على سبيل التخمين والتكهن وتقديم حزمة واسعة من الاحتمالات عسى أن بعضها، أو واحدًا منها، ينجح في التحقق.

وفيما نحن بارعون جدًا في تفسير ما وقع فعلًا، فإننا عاجزون، أو شبه عاجزين، عن التنبؤ بما سيقع، ذلك أن غشاوة سميكة قسرية تغطي بصيرتنا وبصائرنا إزاء المستقبل، غشاوة تصنعها انحيازاتنا وتمنياتنا وأهواؤنا، وكذلك عشوائية الواقع والحجم الكبير لـ "اللا متوقع" في ثناياه. والحرب تحديدًا هي الميدان الأكثر تجسيدًا لهذا العجز، فهنا تصل قدرتنا على التنبؤ إلى أدنى مستوياتها، إذ يتشابك الكثير الكثير من العناصر والمعطيات، الأساسي منها والثانوي، المرئي وغير المرئي، الملموس والخفي.. وفقط بعد نهاية الحرب نستطيع معرفة أي من هذه العناصر كان حاسمًا في صنع المآلات.

ولقد تعلمنا، نحن السوريين، الدرس جيدًا (أو هكذا يُفترض)، فلنعد إلى العام 2011 ونسأل: من كان، يومئذ، يعتقد أن هذه المحنة سوف تستمر كل هذه السنوات؟ وقبل ذلك: من كان يظن أن الحرب الأهلية اللبنانية سوف تستمر خمسة عشر عامًا؟ وإذا عدنا مئة عام إلى الوراء، إلى عشية الحرب العالمية الأولى "الحرب العظمى"، فسوف نكتشف أن لا أحد تقريبًا كان يتوقع قيام الحرب وأنها ستكون "عظمى". ويدرس المؤرخ نيال فيرغسون المؤشرات الاقتصادية عشية الحرب العالمية الثانية، ولا سيما حركة بيع سندات الخزينة، ليكتشف أن قلائل جدًا هم الذين عرفوا بحرب فتاكة وشيكة ستغير العالم.

لا يقتصر عجز المحللين إزاء المستقبل، فكثير منهم يبدون غير فاهمين لما حدث في الأمس وغير عارفين لما يحدث اليوم

ولكن المسألة بالنسبة للمحللين السياسيين لا تقتصر على العجز إزاء المستقبل، فكثير منهم يبدون غير فاهمين لما حدث في الأمس وغير عارفين لما يحدث اليوم. تسأل المذيعة واحدًا منهم: هل أقدم بوتين على خطوته بدافع نزعة توسعية أم خوفًا من تمدد "الناتو"؟ فيشرع المحلل في كلام لا ينتهي، يشرّق ويغرّب، ليصل إلى خلاصة مفادها: ربما يكون بوتين فعل ذلك بدافع نزعة توسعية وربما بسبب خوفه من تمدد "الناتو"! وتسأله: هل فوجئت واشنطن بالغزو أم كانت تتوقعه وأرادت توريط موسكو؟ صرتم بلا شك تتوقعون الإجابة.. أجل بالفعل فهو يجيب: ربما هذه وربما تلك..!

اقرأ/ي أيضًا: في انتظار برسترويكا جديدة

رجل آخر يخرج، تحت مسمى محلل سياسي، ليلعب دور مندوب لبلاده، فيتلو بيانًا هو نسخة عن بيانات مسؤولي دولته، ودون أن يحلل شيئًا فهو يشجب ويندد ويستنكر..

وثالث يصطنع لغة أكاديمية ويتحدث برطانة عويصة مترعة بالمصطلحات والمفاهيم الغامضة، وكل ما يقوله تلخصه عبارة جارك أبو محمود: "الله أعلم"!

ينطبق على هؤلاء ما قاله نسيم طالب في كتابه "البجعة السوداء" عن الخبراء: "بعض الممتهنين المعينين من الذين نخالهم خبراء في مجالاتهم إنما هم ليسوا من الخبرة في شيء. فاستنادًا إلى سجل خبرتهم، فإنهم لا يفقهون عن الأمور الواقعة في إطار نشاطهم أكثر من جمهور الناس العاديين، لكنهم أفضل منهم في المبارزة الكلامية.. كما أنه من المألوف أن نلاحظ أن هؤلاء هم عمومًا من المدمنين على ارتداء ربطات العنق".

ليست المشكلة في ميدان التحليل السياسي بحد ذاته، بل في أن معظم المحللين السياسيين لا يمتون بصلة إلى هذا الميدان، والمحطات التلفزيونية لا تسأل، للأسف، ضيوفها من هؤلاء إن كانوا ممارسين للسياسة، أو مختصين بعلم السياسة، أو ملمين بأسس النظرية السياسية، أو مطلعين على الأيديولوجيات وأنظمة الحكم وخلفياتها الفلسفية، ولا تسألهم إن كانوا قد درسوا جيدًا تاريخ النزاعات والمشكلات التي يتصدون لتحليلها.. ولو فعلت المحطات ذلك، لو سألت، فإن كثيرًا من المحللين لن يعودوا محللين، وسوف يضطرون للبحث عن مهنة أخرى لا أحد فيها يسألهم عن تخصصهم.

قال الساخر المصري الراحل جلال عامر: "كان نفسي أطلع محلل سياسي لكن أهلي أصروا إني أكمل تعليمي"!

اقرأ/ي أيضًا: أوكرانيا تفتح النقاش

أعرف بعضًا من هؤلاء، وبالتأكيد تعرفون أنتم أيضًا عددًا منهم. إنهم لا يملكون أي معرفة زيادة عنا، ولم يتخصصوا في أي مجال يتيح لهم مهمة التحليل، بل ولا يتعبون أنفسهم في قراءة الكتب والدراسات والوثائق ذات الصلة. ليس لديهم مصادر خاصة ولا صلات ذات شأن، ولا يتقنون لغة أجنبية مهمة واحدة، ونادرًا ما يخرجون من بلداتهم ومدنهم الصغيرة.. يتفرجون على التلفاز كما نتفرج، ويقرؤون الصحف كما نقرأ، ولكنهم يتميزون عنا بأنهم يملكون طموحًا لا يخجل وجرأة بلا حدود، ما يضفي مصداقية على النكتة التي كتبها الساخر المصري الراحل جلال عامر: "كان نفسي أطلع محلل سياسي لكن أهلي أصروا إني أكمل تعليمي"!

 

اقرأ/ي أيضًا:

عودة الواقع

حرب الضحيتين