02-مارس-2022

شارلي داغاتا

اعتذر شارلي داغاتا مراسل سي بي أس عن مقاربته للاجئين من أوكرانيا واصفًا إياهم بالمتحضرين نسبيًا والأوروبيين نسبيًا، وليسوا كالعراقيين أو الأفغانيين، وقد يتبعه آخرون من وسائل إعلام أخرى ويعتذرون عما يراد لنا أن نفهمه بوصفه زلات ألسنة. وغني عن البيان أن زلات اللسان هذه المتكررة على أكثر من لسان، تخفي رأيًا عامًا في مقاربة الغرب لشعوب الدول النامية. هذه دول بالنسبة للغرب دائمًا تحتاج للإغاثة، ورغم كل المساعدات المقدمة لها، إلا أنها لم تتقدم وتصبح متحضرة على النحو الذي يدرجها في عداد الدول الطبيعية، ويدرج شعوبها في عداد الشعوب التي تستحق أن يؤسف لها وعليها إن أصابها مكروه.

رغم اللهجة العنصرية التي تعلي من شأن الأوكرانيين المتحضرين وتدني من شأن غيرهم، إلا أن اصطفافهم في زنزانة الضحايا سيسلب منهم كل ما يعتد به العنصريون

لكن هذه الحملة التي تثار ضد هؤلاء من جهتنا تحتاج إلى تدقيق أيضًا. إذ لا يكفي أن يختزن داغاتا وأشباهه مشاعر عنصرية حيال شعوبنا، لتنطلق ألسنتنا بالشماتة بمصير الأوكرانيين الذين يتعرضون لحملة عسكرية روسية عنيفة. في الخلاصة هم ضحايا أيضًا، ولو شاءت أوروبا وأمريكا أن تعتبرهم ضحايا كارثة طارئة بخلاف ما تعتبر شعوب منطقتنا بوصفهم ضحايا أزمات مزمنة، إلا أن حداثة أزمتهم وجدتها لا تمنع عنهم صفة الضحايا التي حازوها في هذه اللحظة.

اقرأ/ي أيضًا: المدمنون على ارتداء ربطات العنق

مع ذلك، ورغم اللهجة العنصرية التي تعلي من شأن الأوكرانيين المتحضرين وتدني من شأن العراقيين والسوريين والأفغانيين والفلسطينيين، إلا أن اصطفافهم في زنزانة الضحايا الضيقة سيسلب منهم كل ما يعتد به مراسل سي بي أس تفريقًا لهم عن الضحايا المزمنين. جل ما في الأمر أن هؤلاء الضحايا وفدوا إلى موقع البشر الأدنى مؤخرًا، ومنذ أن وفدوا خسروا كل ما كانوا يتمتعون به من قبل. الذي قاله داغاتا لا يتعدى كونه رثاء أحوالهم السابقة وترقب ما سينتظرهم في درب الجلجلة التي تم جرهم إليها.

لكن التدقيق في هذا الإعلان الفج الذي يتسابق إليه الصحافيون الغربيون، يفصح عن أمور أكثر مخاتلة واحتيالًا: فالإعلان المتبجح أن أوكرانيا كانت قبل لحظة الغزو الروسي بلدًا متقدمًا ومزدهرًا يحتاج إثباتات لا يملكها هؤلاء المراسلون ولا رؤساء حكوماتهم. أوكرانيا التي تسعى منذ أكثر من عقدين لتنضم إلى الاتحاد الأوروبي أو إلى حلف الناتو، أو تتقرب من أوروبا المزدهرة، إنما تسعى وتجتهد لأنها ليست مزدهرة وليست متقدمة. واقع الحال إن هذه البلاد، وبعضها صار عضوًا في الاتحاد الأوروبي منذ وقت طويل نسبيًا، ما زالت تضطلع بوظيفة الطبقة العاملة التي يمكن الاستغناء عن خدماتها من دون تعويض أو كلفة إضافية. يعملون ويجتهدون في أوروبا المزدهرة ويرسلون حوالات مالية لأهاليهم في بلادهم الأصلية كي يبقونهم على رمق. ورغم أن هذا الرمق الذي يطمحون للبقاء عليه قليل وشحيح إلا أنه يبقى أفضل بما لا يقاس مما تعدهم به الهيمنة الروسية على سياساتهم وأمنهم واقتصادهم. ذلك أنه ليس لدى القيصر قمحًا ليطعم به جياعه، وكل ما يملكه لا يتعدى وهمًا تغذيه عقول لم تغادر حقبة الخمسينيات بعد، تفترض أن الإمبراطوريات تبنى بالجيوش القوية، وأن بناء جيش قوي يكفي في حد ذاته لتحقيق الازدهار.

بعض البلدان التي صارت عضوًا في الاتحاد الأوروبي منذ وقت طويل نسبيًا، ما زالت تضطلع بوظيفة الطبقة العاملة التي يمكن الاستغناء عن خدماتها من دون تعويض أو كلفة إضافية

اقرأ/ي أيضًا: أوكرانيا: عن الاعتداء على الحياة التي تستحق العزاء

الادعاء الصحافي الغربي، الذي يخفي رأيًا عامًا متماسكًا خلفه، لا يجد ما يسنده واقعًا، لكنه ادعاء يحاول أن يتحول حجة سياسية لدعوة دولهم للتدخل في الشأن الأوكراني على نحو حاسم وقاطع. ذلك أن التهديد الروسي للعالم "المتحضر" و"المتقدم" هو تهديد حقيقي، ولا يرقى في أي حال من الأحوال إلى التهديد الذي تشكله كوريا الشمالية أو إيران. فتلك تهديدات لا تتجاوز حدود اللعب على أطراف الحديقة وخارج سورها، أما التهديد الروسي فهو لعب في غرفة المعيشة الأوروبية وليس مستبعدًا أن يصل إلى الفناء الخلفي الأمريكي إذا ما اشتدت وطأته. هذه دعوة للحرب أكثر مما هي إعلان تضامن. ولن تفعل هذه الإعلانات المتسرعة شيئًا في تحسين أوضاع بولندا العضو في الاتحاد الأوروبي ناهيك عن احتمال تحسين أوضاع الأوكرانيين. ولو شاء المرء أن يكون باردًا على نحو مقيت، يمكنه القول: فلندعهم يتحاربون ويتقاتلون، إنها فرصتنا النادرة للتفرج عليهم يحاربون بعضهم بعضًا، فيما ننعم نحن، الشعوب المهملة و"المتأخرة"، ببعض الهدوء. لكن أوضاع العالم المعاصر لم تعد تسمح بمثل هذا الترف. فبصرف النظر عن الترسانة النووية الروسية التي قد تستخدم وقد لا تستخدم، إلا أن اضطرابًا كبيرًا في أوروبا وأمريكا من شأنه أن يعيدنا إلى القرون الوسطى، ثقافة واقتصادًا واجتماعًا، من دون الحاجة لأن يوجه أحد إلينا صاروخًا أو يقصفنا بطائرة.

 

اقرأ/ي أيضًا:

في انتظار برسترويكا جديدة

أوكرانيا تفتح النقاش