06-مارس-2022

أنقاض منزل في أوكرانيا (Getty)

شبه الإجماع الدولي على إدانة سياسات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يحمل في طياته بعض الحسنات. لكن هذا الإجماع لا يعني أن المجمعين عليه يقفون في الجانب الطيب من العالم. إنهم، من وجوه كثيرة، لا يختلفون عمن يدينونه. مع ذلك يجدر بنا نحن الذين لا نعرف هوية لأنفسنا، على مر هذه العقود، غير هوية الضحية، أن نأمل خيرًا بهذا الإجماع. فمثل هذا الإجماع لا يعيد قسمة العالم إلى معسكرين تثبت الكراهية الحدود بينهما. وعلى نحو ما فإن غزو بوتين أوكرانيا الأرثوذوكسية يبدو أقل شرًّا مما لو حدث وأن غزا بولندا الكاثوليكية. ليس لأن بولندا تقع في موقع أهم وأخطر، في الجغرافيا السياسية وفي التاريخ، فقط، بل لأن الدول الأمم منذ ولادتها، لا تكف عن استخدام الهويات الطائفية والأثنية واللغوية بوصفها أدوات تحريض ناجعة.

لا تكف الدولة الأمة منذ ولادتها عن استخدام الهويات الطائفية والأثنية واللغوية بوصفها أدوات تحريض ناجعة

الدولة الأمة كائن مفترس. بوتين يدافع عن الأمة، وزيلينسكي أيضًا، والألمان والفرنسيون يدافعون عن حق الأوكرانيين بأن يكون لديهم أمة مستقلة. وهذه الأمة ما كان لها أن تشد عضدها إلا بإهدار دم أبنائها على مذبح الخصومات السياسية والانحيازات. كل أمة تحتاج، كي تولد، أن تتمنطق بوهم تاريخ، ووهم هوية، وصناعة أعداء، وإنشاء حدود صلبة، وكثيرًا ما تتمنطق بوهم انتماء ديني أو عرقي، وأحيانًا يكون الانتماء ثقافيًا. وكل هذه الانتماءات، الهويات، العصبيات، قادرة على جعل الدم يسيل أنهارًا. بل إنها لا تتمتن ولا تتضح معالمها من دون تسوير حدودها بالدم. دم الذين صدقوا والذين لم يصدقوا وهم الأمة على حد سواء.

اقرأ/ي أيضًا: العقوبات الرياضيّة على موسكو.. للعجز فنونه

تبدو الدولة الأمة هي الاختراع الأكثر فتكًا في التاريخ البشري، ذلك أن الدول الأمم تتقاتل وتتذابح لأسباب اقتصادية، ولأسباب جغرافية، ولأسباب دينية، ولأسباب طبيعية. وفوق ذلك كله قد تتذابح، وغالبًا ما تفعل، على شعارات من قبيل الكرامة والعزة، أو ادعاء التطور والتقدم، كما تتقاتل على ادعاء اللطف والكياسة ويتذابح أبناؤها ليؤكدوا العالم أن أبناء أمتهم يتمتعون باللطف الذي لا يتمتع به أبناء الأمة العدوة.

والدولة الفتاكة، بوسعها أن تعلن الحرب على دولة أخرى، فقط لأنها تعتقد أن تلك الدولة ضعيفة ومسالمة، ولا تملك ردًّا لآلتها الحربية العاتية. الدولة الأمة تستطيع أن تذبح أبناء أمة أخرى، لا لسبب، إلا لأنها تريد أن تجرب أسلحتها. أليس هذا ما قاله الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بالحرف، معلقًا على تدخله الدموي في سوريا؟

الدولة الأمة تستطيع أن تذبح أبناء أمة أخرى، لا لسبب، إلا لأنها تريد أن تجرب أسلحتها

اقرأ/ي أيضًا: بيان داغاتا بوصفه دعوة للحرب

لهذا كله، يبدو الإجماع الدولي على التضامن مع الأوكرانيين أفضل من الانقسام. فبفضل هذا الإجماع، يمكن للأوكرانيين أن يثبتوا بدمهم أنهم أمة. (عسى أن يهنأوا بولادتها). ويمكن للروس أن يتراجعوا عن الموقع الفادح الذي وجدوا أنفسهم فيه. إذ لو قيض لهذه الحرب أن تصنع خندقين عالميين، لكنا الآن نشهد موت حلم الأوكرانيين بتوليد أمتهم المستقلة من نهر دمائهم، ولكان العالم كله ينشد ترنيمتي كراهية في مواجهة بعضه بعضا. وما أن تصدح الحناجر بترنيم نشيد الكراهية في أي جهة من العالم حتى تبدأ رحلة القتل التي لن تنتهي قبل أن تكل أيدي القتلة. لأن هذا النوع من القتلة الذين تحركهم الكراهية، لا يكفون عن اختراع أعداء جدد من حيث لا يحسب العدو ولا الصديق. وحده التعب من القتل هو ما يوقف مذابح الأمم الفخورة بنفسها.

 

اقرأ/ي أيضًا:

أوكرانيا: عن الاعتداء على الحياة التي تستحق العزاء

في انتظار برسترويكا جديدة