04-مارس-2022

لقطة من الفيلم المأخوذ عن الرواية

هناك مقولة معبِّرة للشاعر والناقد الإنجليزي صامويل تايلر كولريدج يُورد فيها: "لعلّ أقسى وأشقّ تجربة بشرية هي تجربة المقاتلة بمراحلها وأشكالها". وإنّ كولريدج في مقولته السابقة جاء يَقصد في لفظة "المقاتلة" الحرب، فالحرب هي من أقسى التجارب الإنسانية التي قد يمرّ بها أيْ إنسان، وإنّ معايشتها كتجربة واقعة فيها من القساوة والصعوبة ما فيها.

كتب هرابال روايته "قطارات تحت الحراسة المشددة" متأثرًا بما عايشه في مدينة براغ التي وصلها عام 1939 للدراسة

وإنّ الكثير من الأدباء والكتاب والشعراء ممّن عاشوا تجربة الحرب أو تأثروا بما سمعوه عن قساوتها ومرارتها قاموا بالكتابة والتعبير عنها، إما بالشعِر أو النثر أو الرواية أو غيرها من أشكال الكتابة الإبداعية الأخرى، واندرجت كتاباتهم تلك ضمن أدب معيَن هو "أدب الحرب"، وهو ذلك الأدب الذي يتخصّص برواية أحوال الحرب وأهوالها، والذي يُمكن اعتباره أدب التعبير عن الأضداد، إذ يأتي ليروي الحرب بما فيها من ثنائيات الموت والحياة والرهافة والشراسة والحبّ الكره وغيرها.

اقرأ/ي أيضًا: "قطارات تحت الحراسة المشدّدة".. أن تعرف نفسك بالموت

وتبعًا لذلك، يُمكن القول بأنّ رواية "قطارات تحت الحراسة المشدّدة" (منشورات المتوسط والفارابي، ترجمة بسام حجار) للكاتب التشيكي بوهوميل هرابال، هي من الروايات التي تَندرج تحت تصنيف الأدب المسمى بـ"أدب الحرب"، تدور أحداثها في عام 1945 –إبان الحرب العالمية الثانية- في مدينة براغ عاصمة تشيكوسلوفكيا آنذاك، وهي العاصمة التي احتلّها النازيون الألمان في بداية الحرب العالمية الثانية عام 1939 وظلّت تحت سيطرتهم حتى تمّكن جيش الاتحاد السوفييتي من تحريرها عام 1945. ورغمَ أنّ الرواية هي من نسج خيال هرابال إلا أنّه يظهر فيها متأثرًا بما عايشه في مدينة براغ التي وصل إليها عام 1939 للالتحاق بكلية الحقوق في إحدى جامعاتها.

تجري أحداث الرواية في العام الأخيرة من الحرب، عندما بدأ النازيون الألمان يفقدون سيطرتهم على مدينة براغ، حيثُ إنّها تأتي لتروي قصة هرما ميلوش؛ ذلك الشاب الذي يَعمل متدربًا في تنظيم حركة القطارات في إحدى محطات مدينة براغ، والذي حاول الانتحار في ذلك العام جراء مشكلة شخصية آلّمت به وأفقدته توازنه النفسي.

تنطلق الرواية في عقدتها من لحظة معينة هي اللحظة التي كانت شاهدة على ذبول ميلوش مثل زنبقة وهو في السرير مع حبيبته ماشا، يَروي ميلوش تفاصيل تلك اللحظة بقوله: "لحقت بي ماشا، وانسلّت لصقي تحت الغطاء الذي رسمت عليه الطائرة، وراحت تُداعبني، كانت ملتصقة بي، وكنتُ أنا أيضًا، أداعبها، وأشعر أنني أصبحتُ رجلًا، وكنتُ رجلًا بالفعل، حتى اللحظة الأخيرة، ولكنّ، في اللحظة الأخيرة ذبلتُ فجأة، مثل زنبقة، وانتهى كلّ شيء".

وبحسب الرواية فإنّ تعبير "ذبلتُ مثل ونبقة" الذي استخدمه ميلوش هو تعبير شعبي سائد في التشيك يستخدمه الرجل ليصف لحظة تعبير جنسي عابرة يمرّ بها. وإنّ تلك العبارة التي استخدمها ميلوش ليصف بها عجزه الجنسي تَظهر في الرواية كأنّها عبارة محورية ومركزية، لا تتحكّم فقط في مصير بطل الرواية ولكّنها تتحكّم في سير أحداثها بالكلية.

يربط هرابال في روايته "قطارات تحت الحراسة المشددة" بين الحرب والقدرة الجنسية

تُورِد الرواية بأنّ لحظة العجز الجنسي التي مرّ بها ميلوش –وتمثّلت في مشكلة قذف مبكّر لديه- كانت هي اللحظة التي قرّر فيها إنهاء حياته، فقد أقدم على إثرها على الذهاب إلى فندق ما وتنفيذ خطة انتحار لولا أن أنقذه بواب ذلك الفندق، وتَستكمل الرواية أحداثها لتَحكي كيفَ أنّ اللحظة التي استعاد فيها ميلوش قدرته الجنسية كانت هي اللحظة التي أحدثت تحولًا جذريًا في حياته وأودت به إلى موته المحتّم.

اقرأ/ي أيضًا: هل سيولد أدب الدكتاتور العربي قريبًا؟

تَروي الرواية أنّ ميلوش وعلى أثر تجربته الانتحارية قضى ثلاثة شهور بالمستشفى، ثمّ خرج بعدها ولجأ إلى طبيب متخصّص، نصحه بعيش تجربة جنسية مع امرأة تكبره سنًا. وأنّ ميلوش حاول طلب نصيحة عدد من النساء اللواتي يكبرنه سنًا لإيجاد حلّ مشكلته، حتى جاء الحلّ مع دخوله في تجربة جنسية مع سيدة ألمانية عابرة كانت قادمة لتستقلّ إحدى القطارات في المحطة التي يَعمل بها، وكان نجاحه معها في هذه التجربة، وقدرته على تجاوز لحظة عجزه الجنسي، سببًا في استعادة ثقته بنفسه.

في اللحظة التي استعاد ميلوش قدرته الجنسية قرّر قتال الألمان في مدينته براغ، فاتفق مع أحد رفاقه في المحطة القيام بتفجير عربات قطار ممن يُطلَق عليهم في محطات براغ قطارات تحت الحراسة المشددة، وهي تلك القطارات التي يّستخدمها الألمان في نقل الجنود والذخائر، إذ إنّها تكون محروسة حراسة جيدة من قبل الجنود الألمان الذين يَطلبون من موظفي المحطات التي تمرّ بها مراقبتها جيدًا، نظرًا لتلك الصفة التي تحملها.

تُظهِر أحداث الرواية أنّ ميلوش قرّر بعد أن استعاد قدرته الجنسية أن يقوم بتفجير قطار من الموضوعين تحت الحراسة المشددة، وهو قطار سيمرّ في المحطة التي يعمل بها مكوّن من ثمانية وعشرين عربة ستكون محمّلة بذخائر لنقلها إلى الألمان في إحدى الجبهات التي يعملون فيها على وقف تقدّم الجيش الروسي (جيش الاتحاد السوفييتي).

تَروي الرواية في نهاية أحداثها أنّ ميلوش استطاع أن يرمي قنبلة ناسفة على عربة الوسط في ذلك القطار، لكنّه تلقى وهو يفعلها رصاصة من إحدى الجنود الألمان الذين كانوا يحرسون عربات القطار؛ تروي أنّه تلقى رصاصة الجندي الألماني في نفس اللحظة التي أطلق عليه النار فيها من مسدس كان يحمله، فأصاب الجندي في بطنه وأصيبَ هو في رئتيه.

اللافت في مَشهد الخاتمة أن ميلوش سقط في حفرة على سكة الحديد بعد إصابته إلى جانب الجندي الألماني الذي أصابه. كانَ الاثنان في الحفرة يحتضران. ميلوش وصف الجندي الآخر: "كان هذا الجندي رجلًا مثلي... كان بلا رتبة أو أوسمة، وها كلٌّ منا أطلق رصاصة على الآخر، كلٌّ منا قتل الآخر".

وإنّه يُمكن أخذ عبارة ميلوش الأخيرة والانطلاق منها في قراءة نقدية للرواية من زاوية جندرية؛ فهذه الرواية هي رواية عن الحرب كما يرويها الرجال، وهي رواية تأتي مليئة بالتحيزات الجندرية لمفهوم الذكورة؛ فهي تَجعل من الفحولة والقدرة الجنسية العالية عند الرجل، أو الذكر، الأساس المركزي الذي تبني عليه أحداثها، إنّ مصير البطل في هذه الرواية يَظهر كما لو كان يتحدّد بمدى ذكوريته/ فحولته، حيثُ إنّ فقدانه لها يَكون كفيلًا بأن يَفقد كلّ معنى لحياته ويضع حدًا لها، في حين تُشكّل استعادته لها نقطة انطلاق جديدة يتحلى فيها بالإقدام والشجاعة فينطلق لمحاربة أعدائه ومقاتلتهم.

يتحدد مصير البطل في رواية "قطارات تحت الحراسة المشدّدة" بمدى فحولته

اقرأ/ي أيضًا: رواية "الحرب والتربنتين".. أوروبا بين حربين

إنّ صفة الذكورة في هذه الرواية تَظهر كصفة طاغية، وتَأتي لتقترن ضمنًا بصفات الإقدام والشجاعة وغيرها، وكأنّ الرواية تستبطن في متنها إشارة ضمنية إلى أنّ إصابة الرجل بعجز جنسي أو فقدانه لذكوريته وفحولته، يجعله منتميًا إلى عالم الأنوثة البعيد كلّ البعد عن صفات الإقدام والشجاعة التي تؤهّل الإنسان للذهاب إلى الحرب والمشاركة فيها.

أخيرًا، فإنّ هذه الرواية جاءت لتُذكّرني بمقال قرأته منشورًا على العربي الجديد بعنوان: "هفوة غسان كنفاني"، ويتحدّث المقال عن الهفوة التي وقع بها غسان كنفاني في روايته "رجال في الشمس" عندما صوّر أبو الخيزران سائق الشاحنة -التي كان يُتخفى فيها الفلسطينيين الثلاثة- شخصًا مصابًا بالعجز الجنسي في إشارة ضمنية إلى القيادة الفلسطينية والعربية الرسمية المصابة بالهزيمة وبالعجز عن الفِعل والإقدام، وإنّ هذا الاستذكار جعلني أتساءل: هل عالم البناء الرمزي يُعطي الكاتب أو الروائي الحقّ في بناء روايته على التحيّز الجندري الصارخ لعالم الذكورة، وإلى متى سيبقى هذا التحيّز موجودًا في أقلام لأشخاص يُقدّمون أنفسهم على أنّهم أصحاب فكر إنساني تقدمي؟!

 

اقرأ/ي أيضًا:

رواية "حقل البرتقال".. الحرب القذرة بين ثقافة القتل وفكرة التضحية

رواية "الصوت النائم".. ذاكرة الحرب المحرّمة